الأدب الفاعل والأدب الانفعالي
بقلم: محمد بن يوسف كرزون
لا شكّ أنّنا نقف اليوم أمام ضرورة تحديد تعريف جديد للأدب، بعدَ أن كادَ يفقد دورَهُ عندَ الجمهور، بزعم أنّه للمختصّين، وأنّ الأدب نوعٌ من المهنة التي يمتهنها الكاتب، ويكتبُ فيها ما يشاء على هواه، وأنّ قرّاءَهُ هم – على الأغلب – من المتخصّصين في النقد أو الأدب والدراسات الأدبية لا غير، إلاّ مَنْ يتّخذ الأدب كتسلية، لا كرسالة حضارية: نفسيّة واجتماعية وثقافية وسياسيةّ حتّى… للرقيّ بالقارئ نحو الأفضل، في وعيه وتذوّقه الأدبي والمعرفيّ، ورفد شعوره بجديد يصقل مشاعره ويهذّبها.
ولعلّ الظاهرة المنتشرة في الأدب العربي خلال أكثر من نصف قرن من الزمان، بل لنقلْ قرناً كاملاً تقريباً، هي ظاهرة الأدب الانفعاليّ. وقد عرفنا قاماتٍ أدبيّة شامخة في هذا الأدب، وصلتْ إلى مرتبة العالميّة، وأعطتْ بسخاء.
ولكنّ هؤلاء المبدعين كانوا يتتبّعونَ طريقَ الكتابات الغربيّة، فيقلّدونها تقليداً شبه مباشر، فيفرحُ الغربُ بها، لأنّها تمثّلُ قِيَمَ الغربِ وقد سادتْ في وطننا العربيّ دونَ منازع.
وأكثر هذه الأعمال كانت تصويراً دقيقاً لمعاناة أفراد المجتمع من البؤس والشقاء، ومغامرات الشباب والنساء، والفساد المستشري في بعض الطبقات الاجتماعية والسياسية، والتخلّف العلميّ، وقضايا النضال والكفاح في سبيل الحرية.
كان تصوير الأدب لهذه القضايا تصوير الناقل الحرفيّ، مع جوانب فنّيّة ولغويّة تُحسَب للكاتب، لأنّه قدّمَ صوراً بديعة طريفة كلّ الطرافة، في قوالب فنّيّة متجدّدة، جديدة على الأدب العربي، وفيها بعض التجديد في الآداب العالميّة.
ولكن هل استطاع الأدب أن يقدّمَ رسالتَهُ الحقيقيّة في النهوض في المستويات الاجتماعيّة للمواطن العربيّ؟
أوّلاً: لقد تمّ تثبيت فكرة أنّ الأدب هو اختصاص في الإبداع وفي القراءة معاً، وأنّ الغرضَ منه، في المدارس على الأقلّ، هو تحصيل الدرجات في مادّة اللغة العربية، لا غير.
ثانياً: ضعفَ التذوّق الأدبيّ العربي عندَ الأساتذة والمعلّمين والطلاّب جميعاً على حدّ سواء، فصارتْ دراسة اللغة العربية لا تختلف عن دراسة مادّة العلوم الجيولوجية، أو غيرها من العلوم المغرقة في الاختصاص.
ثالثاً: غابَ موضوع تحليل النصوص في حواراتِنا غياباً شبه تامّ، خصوصاً عندما حلّ المسلسل التلفزيّ محلّ النصّ الأدبيّ في الانتشار، فصرنا ننشغلُ في إبهار المخرجين والمصوّرين لمعالم المسلسل وخلفيّاته، وبراعة الممثلين في أداء الأدوار، بدلَ أن نحاول تحليل مقولة المسلسل أو هدفه أو رسالته.
رابعاً: سيطرَتْ مفاهيم الأدب الغربيّ على إبداعاتِنا ولا سيّما في النثر، حتّى صارت الكتابة الأدبيّة عندنا بلا رسالة واضحة المعالم، فقد صارَ يصعبُ علينا أن نتبيّنَ معالم واضحة تميّزنا عن الغرب في حياتِنا الاجتماعيّة والثقافية وعاداتِنا وتقاليدِنا، إلاّ ما كان يستخدمه بعض الكتّاب من عادات شديدة الخصوصيّة، مثل بعض خصائص الريف العربيّ.
خامساً: وتراجعَ الكِتاب والكتابة الأدبيّة العربيّة تراجعاً خطيراً، حتّى باتَ المبدعُ لا يجدُ مَنْ يموّلُ له طباعة كتاب ولو في عدد محدود أقلّ من مئتي نسخة.
سادساً: سادتْ في الدراسات الأدبيّة والنقديّة مفاهيم منها أنّ (الأدب يصوّر بدقّة، ولكن ليسَ عليه أن يطرحَ الحلول)، وأنّ (الأدب يجب أن يكونَ غيرَ مباشرِ لكي لا يفقد قيمتَهُ الفنّيّة)… وغيرها من المفاهيم.
ولكنْ، أليسَ يتوجّبُ علينا أن نغيّر رسالةَ الأدب عندنا لتخدمَ مجتمعاتِنا، وترتقي بها؟
- الأديب يمكنه أن يطرحَ الحلّ بكلّ شجاعة في عمله الأدبيّ، فهو عندما يجسّد المشكلة عليه أن يقدّم بقالب فنّيّ الحلّ أو الحلولَ لها.
- أدب البكاء والعويل والظلم والمساكين… صارت مكتبتنا العربيّة متخمةً بنصوصه، إلى الحدّ الذي أبعدَ كثيرين منّا عن قراءة الأدب، لأنّ هذه النصوص ستزيدهم تعاسةً على ما هم عليه من تعاسة.
- صار يحلو لأغلب كتّابِنا الادّعاء بأنّهم غرباء ويسعرون بالغربة عن مجتمعاتهم التي باتت لا تفهمهم الفهم الصحيح؟ هذه الظاهرة أبعدت الأديب عن مجتمعه بدل أن تقرّبه منه ليفهم مجتمعه أكثر.
- لا بدّ من نماذج فتيّة لقصص شباب استطاعوا أن ينجحوا رغمَ ظروف القهر والحرمان التي يعانونَ منها، إنّهم الأبطال الحقيقيون الذينَ يجب أن نقدّمَ تجاربهم للأجيال المتتابعة، لتزداد نسبة الناجحين في مجتمعاتِنا، بدلَ أن تزداد نسبة المستسلمين لظروفهم القاسية.
- هناكَ أفكار يمكن أن تقدَّمَ بقالَب فنّيّ يمكن أن تقنعَ الحكومات العربيّة بضرورة الاهتمام بمن يعمل ويكدح، ولا يجد مَنْ يموّل مشروعه.
- لا شكّ أنّ تجسيد النماذج الجمعيّة المنظّمة (الجمعيّات المرخّصة رسمياً) يساهم في تخفيف وطأةِ الضياع التي يشعر بها المواطن العربيّ الشاب، ذكراً كان أم أنثى.
- ظهرتْ قمم فكرية وعلميّة عربيّة عظيمة في سنوات القرن الحادي والعشرين، وأغلبهم من جيل الشباب، وأغلبهم – للأسف – ممّن تغرّبوا قسراً خارج حدود الوطن العربيّ. هذه القمم كانت مهملة في أوطانِها، وهي طاقات عظيمة كانت مهدورة، والأجدى بنا أن نهتمّ بها ونعزّز مواهبها.
- وهنا يأتي دور الأدب في رسم معالم شخصيّات جديدة من مجتمعاتِنا العربيّة استطاعت بتخفيف القيود عنها أن تبدعَ في غير مواطنها، فما بالكَ لو أنّها أخذت الحريّة في أوطانها؟!
إنّ الأدب رسالة وهدف، وهو يرتقي بالمجتمع، كما أسلفنا، ولا يمكن أن نبقى في حلقة الأدب البكّاء على الإنسان العربي المقهور، لا بدَّ لنا من إيجاد طريقة لكسر القيود التي تحرم مجتمعاتنا من الرسالة العظيمة للأدب.
إنّني لا أقول أنّ الأدب الفاعل مغيّبٌ نهائيّاً عن ساحاتِنا الأدبيّة، ولكنّ نصوصَهُ قليلةٌ إلى الحدّ الذي يكادُ لا يظهر فيه هذا الأدب، ولطغيان الأنواع الأخرى من الأدب طغياناً شبه مطلَق.
محمد بن يوسف كرزون
(كاتب وروائي سوري)