البحث عن ثقافة جديدة
بقلم: محمد بن يوسف كرزون
أسّسْنا لثقافة ما بعدَ الاستعمار، في أغلب أقطارنا العربية، وسعينا من خلالها إلى تكوين شخصيّة جديدة للأمّة، تبني، وترفع من مستوى الإنسان العادي، وتربطه بأحدث منتجات الفكر والقيم العالمية المعاصرة، وتعيد صياغة تفكيره بشكل عصري وواقعي، وغير بعيد عن تراث أمّته، ولكنه في الوقت ذاته غير بعيد عن حياته وعصره الذي يحيا فيه.
وكانَ أن جاءَتْ حكومات عربية في النصف الثاني من القرن العشرين، استطاعت أن تسخّر الثقافة، وبعض المثقّفين، لمصالحها الخاصّة، والتي كانت أهمّ مصلحة لها هي الاستمرار في الحكم أطول مدّة ممكنة. وقد نجحت في هذه المصلحة، بالإضافة إلى نجاحاتها في كثير من المصالح الأخرى، وكان على رأسِها تحويل الثقافة إلى شيء من الترف الذي لا لزوم له، والإقناع بحجج واهية أقرب ما تكون إلى الخداع والكذب، وخلط الأوراق بين المثقّف النبيل والمثقّف المتسلّط.
وقد رأينا تدهورَ الحالة الفكرية والثقافية في بلادنا العربية جميعاً تقريباً، إلى أدنى مستوى، ورأينا كيف ساءت أحوال المثقف والمفكّر وكلّ منتِج للثقافة، وكيفَ كان يُشَكَّكُ في جهوده، تشكيكاً خطيراً.
وظلّ من أدوات الثقافة الإعلام الرسمي، ثمّ الإعلام الإعلاني، الذي كان رديفاً للرسمي على نحوٍ من الأنحاء، وصار هذا الإعلام ينشر ما هبَّ ودبَّ من حملات التناقض والتشكيك في كلّ شيء، ما عدا سياسات الحكومات أو بتعبير أصحّ الحاكم الذي يحكم بأمره.
ونتيجةً لما حصل، ونتيجة للجوع الشديد للثقافة والحريات، والتخمة الفظيعة من الفساد والمراوغة الملطّخة بالزبدة، انفجر الشارع العربيّ، في دول كثيرة، تحتَ مسمّى إعلامي جديد «الربيع العربي».
وأنا لستُ ضدّ هذا المسمّى إلاّ من ناحية أنّ مَنْ أطلق عليه هذه التسمية هو الإعلام الخاضع، وليس الإعلام الحرّ.
انفجر الشارع العربي وهو ليسَ له من قيادة رئيسة يقتنع بها، في كلّ الأقطار العربية التي هبّت شعوبها لتصحّح المسار، فقد نجح الحاكم العربي في تفريغ النخب المثقفة من هيمنتِها، وقناعة القاعدة الشعبية بجدواها أو بصواب فكرها، فكانَ أن تمّ اللجوء إلى الموروث الديني، وهو الوتر الذي يجيد العزف عليه كل الحكومات العربية، في تحويل مفاهيمه وأبجديّاتِهِ إلى ما يخدمها.
ولكنْ، في هذه المرّة لم تصدّق الشعوب هذه اللعبة، وحصل ما حصل من دمار وقتل وتشريد للملايين، في أكثر من أربع دول عربية.
والآنَ، أليسَ على المثقف والمفكّر العربي أن يعيد التوازن بينه وبين القاعدة الشعبية؟ أليسَ عليه أن يصالحَها بعدمِ الخوف من أيّ جبروت جاثم؟ أليسَ عليه أن يكون متّحداً معها في الشعور، لا غريباً عليها؟ كما أُشيعَ ويُشاع بأنّ الأدباء والمفكّرين يعشقون الغربة وأن يُطلَقَ عليهم ألقابٌ تتعلّقُ بتميّزهم عن مجتمعاتهم بالغربة والخصوصيّة، كما أنّ إغراقهم بالرمزية والتعمية، وأخصّ هنا فئة الأدباء والشعراء، قد أخلى موقع المصدرَ الأساس للمثاقفة فارغاً تماماً لثقافة ضحلة رائجة تسعى وسائل الإعلام لترويجها، بكلّ ما أوتيت من خبرة وإمكانيات، وصارت المعلومة ترفاً للتسلية لا غير، ولا سيّما أنّ حَمَلَة الشهادات التعليمية العالية والعليا قد تعمَّدَت الحكومات إلى جعلهم أفقرَ الطبقات الاجتماعية على الإطلاق، وهدرتْ جهودهم التعليمية والعلمية بوظائف هي ضرب من البطالة المقنّعة.
هذا التشخيص يحتّم علينا أن نعيد النظر في طُرُقِ التوجّه الثقافي والفكري العربي عموماً، ووضع آليّات حقيقية لبناءٍ جديد، صلب، متين، لا يقبل التفتيت من حكومات وأنظمة قادمة.
إنّني أدعو المفكّرين والباحثين والمثقّفين جميعاً إلى التفكير في آليّات تعيد التوازن المعرفي والفكري، لننهض من جديد، بعدَ أن دفعنا الثمنَ باهظاً.